كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قُلْنَا: قَوْلُهُ: «ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا وُجِدَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِهِ».
لَمْ يَظُنَّ أَحَدٌ ذَلِكَ، إنَّمَا قُطِعَ الِاعْتِقَادُ بِهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: «إنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ النِّيَّةَ».
قُلْنَا لَهُ: هَذَا تَلْبِيسٌ، وُجُوبُهُ لِأَجْلِهِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي النِّيَّةَ ضَرُورَةً فِيهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُمِرَ لِمَأْمُورٍ بِهِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: «هَذَا لَا يَصِحُّ».
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ إلَّا هُوَ.
قَوْلُهُ: «فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ».
قُلْنَا: هَذَا هَوَسٌ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ لِأَجْلِ الْحَدَثِ.
وَقَوْلُهُ: «إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ».
قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مَاذَا؟ إنْ أَرَدْت الْحَدَثَ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ بِهِ؟ وَإِنْ أَرَدْت الصَّلَاةَ فَلَا يُعْطِي اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى إلَّا وُجُوبَ النِّيَّةِ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: «يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدٍ».
قُلْنَا: هَذَا لَا نُسَلِّمُهُ مُطْلَقًا إنْ أَرَدْت فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا، وَإِنْ أَرَدْت فِي غَيْرِهَا فَلَا نُبَالِي بِهِ.
وَقَوْلُهُ: «دُونَ قَصْدٍ».
إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ الْمَعْقُولُ لَفْظًا الْمُخْتَلُّ مَعْنًى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ فَكَلَامٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَفْظًا، فَكَيْفَ مَعْنًى؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الَّذِي زَمْزَمَ بِهِ أَنَا أَعْرِفُهُ.
قَوْلُهُ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} لَا يَخْلُو مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَرْبِطُ غَسْلَ الْوَجْهِ وَمَا بَعْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْبِطُهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ الْحَدَثِ وَبِالصَّلَاةِ، وَهُوَ: الثَّالِثُ، أَوْ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ: الرَّابِعِ، أَوْ بِالْكُلِّ وَهُوَ: الْخَامِسِ، أَوْ بِبَعْضِهِ وَهُوَ: السَّادِسِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نَرْبِطُهُ بِشَيْءٍ كَانَ مُحَالًا لُغَةً كَمَا تَقَدَّمَ، مُحَالًا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُبِطَ بِمَا رُبِطَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَإِنْ رَبَطَهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَمُحَالٌ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمُحَالٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقِيَامِ لَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ، وَنَفْسُ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ.
وَأَمَّا إنْ أَرَدْت رَبْطَهُ بِالْحَدِيثِ فَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِهِ، لَا مِنْ أَجْلِهِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ بِالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هُوَ.
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ».
وَإِذَا أَمَرَ بِغَسْلِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِ الْكُلِّ فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ؛ وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي غَرَضِهِ بِعَيْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وَجَبَتْ النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ، أَيْ لِأَيِّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ، فَمَحَلُّهَا أَنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً مَعَ أَوَّلِهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْفِعْلِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا لَهُ، فَنِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إنَّ مَنْ خَرَجَ إلَى النَّهْرِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ.
وَإِنْ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ فَعَزَبَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَطَلَتْ النِّيَّةُ.
فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَةُ الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ [بِأَنَّهُ قَالَ:] يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ النِّيَّةَ فِيهَا عَلَى التَّكْبِيرِ.
وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا سَدَّدَهَا، اعْلَمُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا قَدْ لَا يَجِبُ.
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِيهَا وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ هَلْ هَذَا إلَّا غَايَةَ الْغَبَاوَةِ؟ فَلَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ فِيهِ، لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ}: الْيَدُ: عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالظُّفْرِ، وَهِيَ ذَاتُ أَجْزَاءٍ وَأَسْمَاءٍ؛ مِنْهَا الْمَنْكِبُ، وَمِنْهَا الْكَفُّ، وَالْأَصَابِعُ، وَهُوَ مَحَلُّ الْبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ الْعَامِّ فِي الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَعْنَى الْيَدِ، وَغَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَوَّلِ مُحَاوَلَةِ الْوُضُوءِ وَهُوَ سُنَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ فَرْضٌ.
وَمَعْنَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ تَنْظِيفُ الْيَدَيْنِ لِإِدْخَالِهَا فِي الْإِنَاءِ وَمُحَاوَلَةُ نَقْلِ الْمَاءِ بِهِمَا، وَلاسيما عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ، فَقَدْ رَوَى جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وَرَوَى عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا «أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ»، حَتَّى بَلَغَ مَكَانَهُمَا مِنْ عُلَمَائِنَا أَنْ جَعَلُوهُمَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ.
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ ثُمَّ تَمَادَى فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ غَسْلَ يَدَيْهِ كَمَا يُعِيدُ مَا سَبَقَ مِنْ الْوُضُوءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إلَى الْمَرَافِقِ}: فَذَكَرَهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي الْغَسْلِ.
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ {إلَى} بِمَعْنَى مَعَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ {إلَى} حَدٌّ، وَالْحَدُّ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ، تَقُولُ: بِعْتُك هَذَا الْفَدَّانَ مِنْ هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا، فَيَدْخُلُ الْحَدُّ فِيهِ.
وَلَوْ قُلْت: مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا دَخَلَ الْحَدُّ فِي الْفَدَّانِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرَافِقَ حَدُّ السَّاقِطِ لَا حَدُّ الْمَفْرُوضِ؛ قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ.
وَمَا رَأَيْته لِغَيْرِهِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَيْدِيَكُمْ} يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ مِنْ الظُّفْرِ إلَى الْمَنْكِبِ، فَلَمَّا قَالَ: {إلَى الْمَرَافِقِ} أَسْقَطَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْمِرْفَقِ، وَبَقِيَتْ الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إلَى الظُّفْرِ؛ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ {إلَى} بِمَعْنَى مَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى وَضْعِ حَرْفٍ مَوْضِعَ حَرْفٍ، إنَّمَا يَكُونُ كُلُّ حَرْفٍ بِمَعْنَاهُ، وَتَتَصَرَّفُ مَعَانِي الْأَفْعَالِ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِيهَا لَا فِي الْحُرُوفِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إلَى الْمَرَافِقِ} عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ: فَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُضَافَةً إلَى الْمَرَافِقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ} مَعْنَاهُ مُضَافَةً إلَى أَمْوَالِكُمْ.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا}: الْمَسْحُ: عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً، وَهُوَ فِي الْوُضُوءِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْآلَةِ الْمَمْسُوحِ بِهَا، وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْمَغْسُولِ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ اللُّغَةِ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {بِرُءُوسِكُمْ}: وَالرَّأْسُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا النَّاسُ ضَرُورَةً، وَمِنْهَا الْوَجْهُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْوُضُوءِ وَعَيَّنَ الْوَجْهَ لِلْغَسْلِ بَقِيَ بَاقِيهِ لِلْمَسْحِ.
وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْغَسْلَ أَوَّلًا فِيهِ لَلَزِمَ مَسْحُ جَمِيعِهِ: مَا عَلَيْهِ شَعْرٌ مِنْ الرَّأْسِ، وَمَا فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ؛ وَهَذَا انْتِزَاعٌ بَدِيعٌ مِنْ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ إلَى نَحْوِهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ بَعْضَ وَجْهِهِ أَكَانَ يُجْزِئُهُ؟ وَمَسْأَلَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مُعْضِلَةٌ، وَيَا طَالَمَا تَتَبَّعْتهَا لِأُحِيطَ بِهَا حَتَّى عَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ إيَّاهَا؛ فَخُذُوهَا مُجْمَلَةً فِي عِلْمِهَا، مُسَجَّلَةً بِالصَّوَابِ فِي حُكْمِهَا؛ وَاسْتِيفَاؤُهَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إنْ مَسَحَ مِنْهُ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ.
الثَّانِي: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ.
الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ.
ذَكَرَ لَنَا هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ.
الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمْسَحُ النَّاصِيَةَ.
الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَمْسَحَ الرُّبْعَ.
السَّادِسُ: قَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ الثَّالِثَةِ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ النَّاصِيَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعٍ.
السَّابِعُ:
يَمْسَحُ الْجَمِيعَ؛ قَالَهُ مَالِكٌ.
الثَّامِنُ: إنْ تَرَكَ الْيَسِيرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ؛ أَمْلَاهُ عَلَيَّ الْفِهْرِيُّ.
التَّاسِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: إنْ تَرَكَ الثُّلُثَ أَجْزَأَهُ.
الْعَاشِرُ: قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ أَشْهَبُ: إنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ.
فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَمَنْزِلَةُ الرَّأْسِ فِي الْأَحْكَامِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْأَبْدَانِ، وَهُوَ عَظِيمُ الْخَطَرِ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَطْلَعٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: فَمَطْلَعُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الرَّأْسَ وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْعُضْوِ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّعْرِ بِلَفْظِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْلِقْ رَأْسَك»، وَالْحَلْقُ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّعْرِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا تَرَكَّبَ عَلَيْهِ: الْمَطْلَعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الرَّأْسِ يَنْقَسِمُ فِي الْعُرْفِ وَالْإِطْلَاقِ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الِاسْمِ.
وَالثَّانِي: يَقْتَضِي بَعْضَهُ؛ فَإِذَا قُلْت: «حَلَقْت رَأْسِي» اقْتَضَى فِي الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ الْجَمِيعَ.
وَإِذَا قُلْت: مَسَحْت الْجِدَارَ أَوْ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ رَأْسِي اقْتَضَى الْبَعْضَ، فَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ: الْمَطْلَعُ: الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْبَعْضَ لَا حَدَّ لَهُ مُجْزِئٌ مِنْهُ مَا كَانَ قَالَ لَنَا الشَّاشِيُّ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} وَكَانَ مَعْنَاهُ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ، وَكَانَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثًا.
قُلْنَا: إنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ مَسَحَهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَسْحُ أَظْهَرُ، وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَقَلُّهُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ.
الْمَطْلَعُ الرَّابِعُ: نَظَرَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَبْدُو مِنْ الْأَعْضَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِنْ الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ النَّاصِيَةُ، وَلاسيما وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ».
الْمَطْلَعُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ فَلَا يُتَيَقَّنُ مَوْضِعُهَا؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْسِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مَسْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاصِيَةَ، وَهِيَ نَحْوُ الرُّبْعِ فَيَتَقَدَّرُ الرُّبْعُ مِنْهُ أَيْنَ كَانَ، وَمَطْلَعُ الرُّبْعِ بِتَقْدِيرِ الْأَصَابِعِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَطْلَعُ الْجَمِيعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ عِبَادَةَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، كَمَا عَلَّقَ عِبَادَةَ الْغَسْلِ بِالْوَجْهِ؛ فَوَجَبَ الْإِيعَابُ فِيهِمَا بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ.